الأسباب المؤدية إلى تعاطي المخدرات

مازالت ظاهرة تعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية في المجتمع العربي تشكل مصدراً أساسياً من مصادر القلق بالنسبة إلى المعنيين باتخاذ القرار على مستوى الدولة والمجتمع، برغم أن عمليات مكافحتها والتوسع في استخدام الأدوات التقانية المعاصرة، والوسائل الأكثر حداثة للحد من انتشارها شهدت تطوراً ملحوظاً ايضاً، وتخصص لها سنويا نفقات مالية كبيرة، إلى جانب النمو المتزايد في مشاركة قطاعات اجتماعية عديدة في عمليات التوجيه والتوعية والإرشاد، فظاهرة التعاطي مازالت في نمو متزايد يفوق الجهود التي تبذلها المؤسسات الرسمية والأهلية المعنية بالمكافحة، مما يثير مجموعة كبيرة من التساؤلات حول العوامل التي تؤدي إلى انتشار الظاهرة بقوة أكبر في المجتمع العربي من جهة، وحول الرؤى المتعددة التي تحاول تفسير انتشار الظاهرة في المجتمع من جهة أخرى، الأمر الذي يستوجب إجراء مراجعة شاملة لما تم إنجازه على المستوى المعرفي في هذا المجال.
لقد قدمت الدراسات العربية المعنية بتحليل العوامل المؤدية إلى تعاطي المخدرات مجموعة كبيرة من التحليلات العلمية للواقع، واعتمدت في ذلك اطراً تفسيرية متعددة، ودراسات ميدانية واسعة في مجمل الدول العربية تقريباً، وجرت مقارنات عديدة بين العوامل والأسباب المؤدية إلى انتشار ظاهرة التعاطي بين دول عربية عديدة، وأعد الباحثون في مضمار الدراسات العليا رسائل جامعية وأطروحات علمية متنوعة لتقديم رؤى تفسيرية لمشكلة التعاطي، ورصد العوامل المؤدية إليها، وظهر ذلك جلياً وواضحاً في أغلب الدول العربية التي تعاني من الظاهرة، وإن جاءت هذه المعاناة بدرجات متباينة، لكنها تستحوذ على اهتمام المفكرين والباحثين فضلاً على اهتمام المعنيين باتخاذ القرار، وخاصة في المجال الأمني، فالأبعاد الأمنية لمشكلة تعاطي المخدرات باتت تفوق الأخطار المترتبة على الكثير من المشكلات الأمنية والاجتماعية الأخرى المنتشرة في المجتمع.
والمشكلة في تناول موضوع العوامل المؤدية إلى تعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية في المجتمع العربي أن الباحث المعني بالموضوع يجد نفسه في كثير من الأحيان مدفوعاً إلى إعادة إنتاج الأفكار ذاتها، والمواضيع نفسها، فإذا كانت عملية التعاطي مبنية في أساسها على الأبعاد النفسية والاجتماعية والثقافية التي تصف الفرد والمجتمع في لحظة انتشار الظاهرة، فمن الملاحظ أن الدراسات العربية تؤكد في كل مرة على أهمية العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية في انتشار ظاهرة التعاطي، وتظهر في كل مرة أيضاً أهمية الأسرة والمدرسة وجماعات الأقران ووسائل الاتصال الحديثة وغيرها من العوامل الاجتماعية التي تحيط بالفاعلين، وخاصة فئات الشباب منهم، ومن هم في سن الفتوة، وتبين الدراسات الميدانية التي تم تنفيذها في معظم بلدان المجتمع العربي عن ارتباطات إحصائية واضحة بين العوامل المشار إليها والإقدام على عملية التعاطي مما لا يدع مجالاً للشك في صحة الارتباطات المشار إليها، ولا يدع مجالاً للشك في مصداقية هذه البحوث والدراسات التي يتم الإشراف عليها ومتابعتها من قبل باحثين مختصين لهم خبراتهم المهنية التي تعزز المصداقية في هذه النتائج.
غير أن المشكلة تبدو أكثر صعوبة في مجال التطبيق ومحاولات الاستفادة من النتائج التي خلصت إليها البحوث والدراسات المعنية، فمع التأكيد على أهمية الأسرة والمدرسة وجماعات الأقران، وتطوير البرامج الثقافية والتوعوية التي من شأنها أن تساعد في تمكين هذه المؤسسات للقيام بأدوارها الاجتماعية يلاحظ أن المشكلة تزداد تعقيداً، فالمشكلات الأسرية في تفاقم، والأداء الوظيفي للمؤسسات التعليمة في تراجع، وانجراف جماعات الأقران والشلل نحو مظاهر الانحراف في تزايد، ويضاف إلى ذلك أن محطات البث الفضائية باتت أكثر تنوعاً، وشبكات الاتصال بالانترنت أصبحت أكثر يسراً، وهذه كلها غير خاضعة للمراقبة، لا على مستوى الأسرة، ولا على مستوى المجتمع، مما جعلها تحمل في مضامنيها كل ما من شأنه أن يدفع الأبناء إلى الانحراف والتعاطي، لمجرد الفضول والمغامرة للوهلة الأولى، ولكن سرعان ما يصبح التعاطي مشكلة أساسية بين الشباب.
وفي ضوء هذا التصور للمشكلة وأبعادها، تأخذ الدراسة بتحليل مشكلة تعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية في المجتمع العربي برؤية مختلفة إلى حد ما، تقوم على تصور عملية التعاطي مع العوامل المؤدية إليها في محيط الأسرة والمدرسة وجماعات الأقران ووسائل الاتصال وغيرها نتاجاً كلياً لعوامل أشمل وأوسع على مستوى المجتمع بمجمله، وما مظاهر الارتباط التي تكشف عنها الدراسات الميدانية والتحليلات الإحصائية المتعددة إلا مظاهر اقتران بين متغيرات تابعة تعود إلى عوامل أعمق على مستوى التغير الاجتماعي مازالت غير منظورة بشكل مباشر، وبالتالي فإن مظاهر الاقتران المشار إليها لاتحمل في مضمونها بعداً تفسيرياً يقوم على مبدأ العلة والمعلول، فالتفكك الأسري مثلاً، الظاهر منه والخفي، لايؤدي بالضروة إلى تعاطي الأبناء للمخدرات والمؤثرات العقلية، إنما يأتيان معاً (تفكك الأسرة، وتعاطي الأبناء للمخدرات) نتيجة تحولات أعمق في البنية الاجتماعية نتيجة عمليات التغير الواسعة، وما يقال في تفكك الأسرة يقال أيضاً في الأداء الوظيفي لمؤسسات التعليم، ووسائل الاتصال، وغيرها من العوامل التي تبدو من حيث الشكل، أنها فاعلة في انتشار ظاهرة التعاطي.
وتأتي هذه الدراسة للعوامل المؤدية إلى تعاطي المخدرات بعد سبع سنوات تقريباً من دراسة سابقة كان لنا شرف إعدادها بالموضوع نفسه عام 1425، وتم نشرها في مركز البحوث والدراسات بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، وهي مختلفة عنها من حيث الشكل والمضمون، مع الاعتراف بأن قواسم مشتركة عديدة بين الدراستين، شأنهما في ذلك شأن كل الدراسات المعنية بتعاطي المخدرات، أما ماهو مشترك فيها فالتحليل المتعلق بفهم ظاهرة التعاطي في ضوء الشروط الاجتماعية المحيطة بها كظروف الأسرة والمدرسة وجماعات الأقران وغيرها من العوامل التي لاتخلو منها دراسة اجتماعية من الدراسات العربية التي أولت الموضوع اهتمامها منذ عقود زمنية عديدة، بالإضافة إلى ما قدمته الدراسات العربية أيضاً في مجال توضيح مسؤولية مؤسسات الأسرة والمدرسة ووسائل الاتصال المختلفة وغيرها في عملية الوقاية من التعاطي وحماية الأبناء والبرامج الوقائية المختلفة.
أما ما تختلف عنه الدراسة الحالية عن الدراسة السابقة المشار إليها، وعن الدراسات العربية المعنية بموضوع البحث فهو في الرؤية والتوجه في التفسير، ففي حين أولت الدراسة السابقة اهتماماً كبيراً بجماعات المصلحة وشبكات التجارة غير المشروعة للمخدرات وارتباطها بالأبعاد السياسية للمشكلة على المستوى العالمي، فإن الدراسة الحالية تميل إلى تفسير النمو المطرد للمشكلة في سياق مظاهر التغير في التحديات المجتمعية الواسعة، وخاصة الخارجية منها، التي تشهدها المنطقة العربية منذ بدايات القرن العشرين وحتى الآن، وباتت تهدد أمنها على المستوى الداخلي، وتتطلب تغييرا واسعاً لنظم التفاعل الاجتماعي التي استقر عليها المجتمع منذ فترة طويلة من الزمن، في الوقت الذي ظهرت فيه ملامح التوظيف السياسي لمكونات مجتمع ماقبل الدولة، وساهمت في تشويهها حتى انحرفت هذه المكونات عن وظيفتها الأساسية وفقدت الكثير من مضمونها الاجتماعي والوجداني والأخلاقي، ولم تعد قادرة في الكثير من الحالات على ضبط السلوك وتوجيهه كما كان حالها في المراحل التقليدية السابقة، وسرعان ما ظهرت آثار ذلك واضحة في ضعف منظومات القيم الأخلاقية والاجتماعية، حتى بات المجتمع في جزء كبير منه يشكل بيئة خصبة لنمو مظاهر الانحراف والجريمة والفساد، ويشكل الانتشار الواسع المتزايد لتعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية نموذجاً للبرهنة على تفكك نظم التفاعل الاجتماعي التقليدية، وما يرافقها من انحلال للقيم والمعايير الضابطة للسلوك الاجتماعي، دون تشكل البديل المناسب الذي يحقق عملية الانضباط الذاتي التي تحول دون انتشار مظاهر الانحراف، وهي عملية تتطلب استقرار نموذج مثالي في الوعي الاجتماعي ينظم آليات التفاعل بين مكونات المجتمع ومؤسساته المتعددة.
إن المعالجة الحقيقية لمشكلة تعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية في المجتمع العربي لن تكون مجدية طالما أنها لا تمس العوامل الحقيقية التي تؤدي إلى انتشار المشكلة، ويمكن أن ينتهي التحليل إلى تقرير أن مشكلة التزايد في انتشار ظاهرة تعاطي المخدرات، ليست بالضرورة نتيجة عوامل موضوعية خارجة عن إرادة الفاعلين في التنظيم الاجتماعي، فقد تشكل السياسات المتبعة في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والطموحات المختلفة للقوى الاجتماعية الفاعلة في المجتمع عوامل أساسية تدفع إلى عملية التعاطي، وخاصة عندما تنجرف هذه السياسات مع التحديات الخارجية المحيطة بها لتحقيق منافع آنية ومصالح  تغيب عنها الرؤية الشمولية لعلاقة الجزء بالكل الذي ينتمي إليه، وغالباً ما تصبح هذه السياسات بمثابة عوامل جديدة تؤدي إلى مزيد من المشكلات الاجتماعية بين الشباب، وإلى مظاهر جديدة من الاضطراب النفسي والوجداني والأخلاقي، الأمر الذي يوفر الشروط المناسبة لانتشار مظاهر الانحراف والجريمة وتعاطي المخدرات مرة أخرى في المجتمع.
وتتوزع موضوعات الدراسة في ستة فصول أساسية، يتناول أولها الأطر النظرية والمنهجية لدراسة مشكلة تعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية في المجتمع العربي، من حيث تحديد موضوع الدراسة وتساؤلاتها الأساسية، والدراسات العربية السابقة المعنية بظاهرة تعاطي المخدرات في المجتمع العربي، والنظريات المفسرة لمشكلة تعاطي المخدرات في المجتمع، والمنهجية العلمية المعتمدة في تحليل الظاهرة وبيان العوامل المؤدية إليها، وأخيراً فرضية الدراسة الأساسية التي يبنى عليها تحليل العوامل المؤدية إلى تعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية في المجتمع العربي.
ويأخذ الفصل الثاني بتناول ظاهرة تعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية في المجتمع العربي وأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية كما هي في الدراسات العربية المعنية، وبالنظر إلى ارتباط الظاهرة بما هي عليه على المستوى العالمي، يبحث الفصل في ماهية الظاهرة على المستوى الدولي، وعلى المستوى العربي بوصف المجتمع العربي منظومة اجتماعية ثقافية متكاملة، ثم دراسة الظاهرة على مستوى الدول العربية بحسب توزعها المكاني والإقليمي، كما يتضمن الفصل شرحاً لأبعاد نمو المشكلة على المستويات الاقتصادية والسياسية، فالمجتمع العربي جزء لايتجزأ من العالم، وتحيطة مجموعة كبيرة من التحديات المجتمعية والسياسية التي لايمكن إغفالها في تناول الظاهرة وما يترتب عليها من آثار.
كما يتناول الفصل الثالث بالشرح العوامل المؤدية إلى تعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية كما هي في الدراسات العربية المعاصرة، فيأخذ بشرح خصائص المادة المخدرة ووجودها بوصفه عاملاً اساسياً من عوامل انتشارها، بالإضافة إلى العوامل النفسية والاجتماعية المتمثلة في الأسرة، وجماعات الأقران، ووسائل الاتصال الحديثة، ومظاهر التغير في البنى الاجتماعية، واتساع نطاق الجريمة والجريمة المنظمة ونمو جماعات المصلحة وغيرها.
ويقدم الفصل الرابع شرحاً مفصلاً للأطر التحليلية المعتمدة في الدراسة لتفسير مظاهر الانحراف وتعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية في المجتمع العربي، ويأخذ بالاعتماد على مقولة اجتماعية الإنسان وتكوين الجماعات الإنسانية، ومسألة البحث عن الآخر وعملية الاستقطاب الاجتماعي ضمن الجماعات الإنسانية، ثم مسألة العلاقة بين عملية الاستقطاب الاجتماعي والأطر المحددة لآليات التفكر عند الفرد ومساراته، ثم مسألة العلاقة بين عملية الاستقطاب الاجتماعي للفرد وتفاضل الجماعات التي ينتمي إليها، واختلافها في القوة والتأثير، وأخيراً يبحث الفصل في ظاهرة التعاطي بوصفها نتاجاً لعملية الاستقطاب التي تفرضها الجماعة.
ويحاول الفصل الخامس أن يقدم رؤية لمظاهر التغير الواسعة التي شهدها المجتمع العربي، ويشهدها اليوم، والتي تؤثر بدورها في الوظائف الحيوية المنوطة بالمؤسسات الاجتماعية، فالتحديات الخارجية ساهمت في تغيير الشروط التي كانت تهدد المجتمع في مرحلته التقليدية، حتى ظهرت ملامح جديدة لمصادر الخطر، وأوجدت شروطا جديدة لم تكن معروفة في السابق كما هي عليه الآن، ومن الطبيعي أن تعمل المؤسسات الاجتماعية الداخلية على إعادة تنظيماتها بالشكل الذي يجعلها أكثر كفاءة في الاستجابة للتحديات الجديدة التي تهدد الأمن الاجتماعي، في الوقت الذي أخذت تظهر فيه ملامح التوظيف السياسي لمكونات مجتمع ماقبل الدولة، وقد انتشرت في المجتمع تيارات ثقافية وسياسية واجتماعية متنوعة كان لها الأثر الكبير في عمليات التوظيف المشار إليها، وفي مظاهر الاضطراب والخلل في منظومات المجتمع التقليدية، وتميز الدراسة بين الاتجاهات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي انتشرت في الداخل العربي، وبين القوى السياسية المحيطة بالمجتمع على المستوى الخارجي، وكان لها تأثير فاعل في الداخل، الأمر الذي لايمكن تجاهله في تحليل مظاهر الاضطراب والخلل.
في الفصل السادس والأخير، تقدم الدراسة خلاصة ما ينبغي القيام به على مستوى مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية وطرق الوقاية منها، ويتناول الفصل موضوع مكافحة المخدرات واستراتيجات المكافحة، وطرق معالجة المدمنين، والعلاج الإسلامي لمشكلة الإدمان، ثم الأسس المعتمد في الوقاية من تعاطي المخدرات، والوقاية من منظور إسلامي، وأخيراً الوقاية الشاملة والاقتراحات العامة للدراسة.
وتنهي الدراسة بقائمة المراجع الأساسية المعتمدة فيها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق