العوامل المؤدية إلى انتشار ظاهرة تعاطي المخدرات في المجتمع العربي

   
تشغل مشكلة تعاطي المخدرات في المجتمع العربي، وفي العالم بصورة عامة حيزاً كبيراً من اهتمامات المفكرين والباحثين الاجتماعيين ورجال السياسة والمعنيين بمسائل الضبط الاجتماعي نظراً لما تحمله من مخاطر تهدد أمن المجتمع ومنظومات القيم والضوابط الأخلاقية للسلوك الاجتماعي، بالإضافة إلى آثارها المتعددة في بنية الاقتصاد الوطني المترتبة على انتشارها نتيجة امتصاصها للثروات الاجتماعية والإمكانات التي يملكها الأفراد من خلال أنماط سلوكية تحرمها الشرائع وتمنعها القوانين. يضاف إلى ذلك أن عملية التعاطي تؤثر على نحو سلبي في صحة المتعاطين أنفسهم، وفي أنماط حياتهم الاجتماعية، فضلاً على الآثار التي تتركها هذه الظاهرة في روابط الأسرة ومستقبل الأبناء.
    وتولي الدراسات العربية اهتمامها الكبير بالظاهرة نتيجة  تزايد انتشارها عاماً بعد آخر، برغم أن الاهتمامات العلمية لتحديدها ورصد أبعادها، والعمل على معالجتها تعود إلى بدايات القرن العشرين إثر ظهور الاهتمام بها على المستوى الدولي، وتتالي المؤتمرات والاتفاقات الدولية لتقويض دعائمها والحد من انتشارها، ومع ذلك لم يكن اهتمام الباحثين بالظاهرة يتعدى كونها مشكلة يتعرض لها بعض الأفراد الذين يقبلون عليها، غير أن هذا الاهتمام سرعان ما أخذ ينمو مع نمو المشكلة ذاتها وتزايد المخاطر التي تنجم عنها على مستوى الأفراد والمجتمع على حد سواء.
   وتأخذ الدراسات العربية في معالجتها لجوانب الظاهرة والقضايا المرتبطة بها مسارات عديدة، وتتناول موضوعات مختلفة، ففي حين يولي عدد من الباحثين اهتمامهم بالعوامل الاجتماعية والنفسية التي تؤدي إلى انتشار ظاهرة تعاطي المخدرات والآثار المترتبة عليها، يولي باحثون آخرون اهتمامهم بالمسائل التشريعية والقانونية التي من شأنها أن تحد من انتشار الظاهرة وتقويض دعائمها في المجتمع، كما تلاحظ أعمال أخرى مكرسة لإظهار المخاطر المترتبة على انتشار الظاهرة وآثارها السلبية على مستوى الفرد والمجتمع، وتأتي هذه الأعمال في إطار الجهود الإعلامية الهادفة إلى توعية الشرائح الاجتماعية الأكثر استعداداً للتعاطي.
    وبتحليل الأعمال العلمية التي تهدف إلى معرفة العوامل المؤدية إلى انتشار الظاهرة وإقبال الأفراد على تعاطي المخدرات يلاحظ أن الباحثين يظهرون في هذا المجال عوامل أساسية عديدة يتمثل أهمها بالعوامل النفسية التي توفر الاستعداد الذاتي لتقبل التعاطي، والعوامل الاجتماعية المحيطة والتي تدفعهم إلى التعاطي، وبذلك تتضافر العوامل النفسية والاجتماعية في انتشار الظاهرة. بالإضافة إلى ما تظهره هذه الدراسات أيضاً من أبعاد اقتصادية وسياسية ترتبط بالشروط الاقتصادية للدول المنتجة، وبتوظيف الظاهرة للصراعات السياسية في بعض الحالات.
    وتأخذ هذه الدراسات بتحليل الظاهرة بدءاً من الأفراد أنفسهم الذين يتعاطون المخدرات ومروراً بالعوامل التي تؤدي بهم إلى الإقبال على هذا التعاطي، ويلاحظ أن التراث النظري النفسي والاجتماعي في الوطن العربي يعد غنياً بالنظر إلى ما فيه من تنوع وتحليلات تظهر أثر العوامل النفسية والاجتماعية في انتشار الظاهرة، كما تظهر أبعادها الاقتصادية والسياسية.
    غير أن جانباً مهماً في التحليل الاجتماعي ما زال يحتاج إلى مزيد من التقصي والتحليل، فالمشكلة ليست مشكلة أفراد وحسب، بدلالة أن حجم الظاهرة، ودرجة انتشارها تختلف بين الدول والمجتمعات بشكل كبير، ففي حين تصل نسبة التعاطي في بعض البلـدان إلى أكثـر مـن (10%) أو (20%) من السكان، يلاحظ أن نسبة التعاطي في بلدان أخرى لا تتجاوز نسبة (5%) فقط أو أقل، ويدل ذلك على أن مشكلة تعاطي المخدرات تعود في جزء كبير منها إلى مجموعة من العوامل الثقافية والحضارية التي تميز المجتمعات الإنسانية، وتجعل بعضها أكثر ميلاً إلى قبول الظاهرة، بينما تجعل بعضها الآخر  أكثر رفضاً لها، وبذلك تصبح درجة انتشار الظاهرة مختلفة بين المجتمعات بمقدار اختلاف خصائصها الثقافية والحضارية والتاريخية.
    ومن الملاحظ أن جزءاً كبيراً من الدراسات الاجتماعية العربية المعنية بظاهرة تعاطي المخدرات يأخذ بالتحليل الجزئي للظاهرة، ويعتمد تحليل العوامل المباشرة التي تدفع بالأفراد إلى التعاطي، غير أن الاكتفاء بهذا المستوى من التحليل يؤدي إلى إغفال عوامل أساسية أخرى، ويضعف من إمكانية تحقيق الرؤية الشمولية لتفاعلات الظاهرة مع العوامل المؤدية إليها على مستوى المجتمع الكلي برمته.
    إن التحليل الاجتماعي المعمق للعوامل المؤدية إلى انتشار ظاهرة تعاطي المخدرات لا يستقيم مع الاقتصار على التحليلات الجزئية التي ترصد الظاهرة على مستوى الأفراد، وعلى مستوى العوامل القريبة منهم التي تدفعهم إلى ممارسة التعاطي أو لممارسة أي نمط من أنماط السلوك المنحرف دون تحليل اجتماعي موسع للظاهرة على المستوى الكلي البنيوي الذي يمّكن الدارس من رؤية العوامل في سياقها الاجتماعي الأوسع، ذلك أن العوامل المباشرة التي تدفع بالأفراد إلى تعاطي المخدرات، بوصفهم أفراداً، ليست هي بالضرورة العوامل التي تؤدي إلى انتشار الظاهرة على مستوى المجتمع. وغالباً ما تأتي مجموعة العوامل الأولى نتاجاً لمجموعة العوامل الثانية، كما أن الأدوات والتقانات التي يستخدمها الباحث في تحليله للمجموعة الأولى من العوامل تختلف عن تلك التي يستخدمها في تحليله للمجموعة الثانية.
    ولهذا لا بد من التمييز بين العوامل التي تدفع ببعض الأفراد إلى تعاطي المخدرات في المجتمع، وبين العوامل التي تؤدي إلى انتشار الظاهرة على المستوى الاجتماعي بصورة عامة، وتجعل من التعاطي ظاهرة تنذر بمخاطر كبيرة وتقتضي الضرورة معالجتها.
   وتأخذ الدراسة بتحليل انتشار ظاهرة تعاطي المخدرات بوصفها نتاجاً لمجموعة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تسهم في تقويض دعائم البنية الثقافية التي تشكل الأساس في عمليات التفاعل الاجتماعي، وفي عمليات التنظيم التي يترتب عليها تبادل الحقوق والواجبات بين الأفراد ضمن المؤسسات التي يعملون فيها من جهة، وبينهم وبين هذه المؤسسات من جهة أخرى.
    وتعالج الدراسة موضوعاتها في بابين أساسيين، يبحث أولهما في الأصول المنهجية والنظرية للدراسة، ويأخذ الثاني بالتحليل الاجتماعي لانتشار ظاهرة تعاطي المخدرات على المستوى الكلي.
   يضم الباب الأول أربعة فصول تتناول موضوعاته، يبحث أولها في الأسس المنهجية والأطر النظرية والتحليلية للبحث، فيشرح أهمية الموضوع، وأهداف الدراسة، والأسس النظرية التي تعتمدها، والفرضيات الأساسية التي تسيّرها. ويتناول الفصل الثاني بالتحليل مجموعة العوامل التي تؤدي إلى تعاطي المخدرات كما تظهرها الدراسات الاجتماعية العربية المعاصرة، وذلك في أربعة محاور تتصل بالعوامل النفسية والذاتية، وبالعوامل الأسرية، والعوامل المدرسية والاجتماعية، وأخيراً الأبعاد السياسية والاقتصادية لعملية انتشار ظاهرة التعاطي.
   ويعالج الفصل الثالث جملة من القضايا المتعلقة بالآثار المترتبة على انتشار ظاهرة التعاطي، وذلك على مستوى الفرد، والأسرة والمجتمع بصورة عامة، وذلك كما هي في الدراسات الاجتماعية العربية المعاصرة، ثم يأخذ الفصل الرابع بدراسة الجوانب المتعلقة بكيفية معالجة المشكلة، وتعزيز نظم الوقاية من انتشار الظاهرة، والاقتراحات التي من شأنها تطوير القوانين والأنظمة التي تساعد في الوقاية من المخدرات، وتحول دون انتشار الاستخدام غير المشروع لها. 
   ويضم الباب الثاني أربعة فصول أيضاً تشرح العوامل التي تؤدي إلى انتشار ظاهرة التعاطي في ضوء الافتراضات الأساسية للبحث، ومقولاته النظرية، فيشرح الفصل الأول طبيعة العلاقة بين التدهور الملحوظ في بنية التنظيم الاجتماعي وانتشار ظاهرة التعاطي، بينما يتناول الفصل الثاني طبيعة العلاقة بين القوى الاجتماعية وخصائص جماعات المصلحة من جهة وانتشار ظاهرة التعاطي من جهة ثانية، ويشرح الفصل الثالث كيفية تأثير العوامل الاجتماعية والثقافية السائدة في تغيير أنماط الشخصية في المجتمع، وكيفية تشكل الأساس الاجتماعي لانتشار الظاهرة، أما الفصل الرابع والأخير فيقدم الخلاصة والنتائج الأساسية التي انتهت إليها الدراسة، ومن ثم التوصيات والاقتراحات التي يمكن أن تسهم في معالجة مشكلة التعاطي في المجتمع العربي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق