علم الاجتماع ودراسة الفعل الإنساني



 يعد الفعل الإنساني بمثابة التجسيد الواقعي لحياة الإنسان، وترتبط به مجمل القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تشغل بال الباحثين والمفكرين على اختلاف الزمان والمكان، فالجريمة بأشكالها المختلفة والاستغلال، والاستئثار، وكل ما من شأنه أن يحقق الاتصال بين أفراد المجتمع الواحد، وبين المجتمعات المختلفة، وكل إنجاز ثقافي وحضاري، يحققه الإنسان عبر تاريخه وكل نجاح في مضمار العلم والتكنولوجيا... ليست إلا مظاهر للفعل الإنساني، تأخذ أشكالها المختلفة باختلاف الظروف المحيطة بها، وباختلاف العوامل المساهمة في تكوينها.
     وبذلك تشمل مظاهر الفعل الإنساني الأوجه المختلفة للنشاطات التي يمارسها الإنسان، سواء البسيطة منها، أو الأكثر تعقيدا. بدءا من العمليات العقلية على المستوى الذاتي والتي ترمي إلى تحقيق مستوى بسيط من التكيف مع المحيط، ومرورا بتعزيز الصلات الاجتماعية وتوثيق العلاقات مع الآخرين، إلى تطوير النظم الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية.. وانتهاءً بتلك الفعاليات التي من شأنها أن تسهم في بناء الحضارة الإنسانية وتطويرها.
وعلى هذا تشكل دراسة الفعل الإنساني مدخلا هاما لتحليل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تجابه الإنسان على اختلاف العصور. وضرورة من ضرورات التعرف على القضايا الكبرى التي تجابه المجتمعات الإنسانية على اختلاف مستويات تطورها، وتنوع تجاربها الثقافية والحضارية.
    ويعود اهتمام المفكرين والفلاسفة بالقضايا المرتبطة بالفعل الإنساني إلى مراحل قديمة تتوغل في أعماق التاريخ الإنساني، وتبرز فيها اجتهادات كبيرة ومحاولات عديدة ارتبطت بمحاولات فهم طبيعة الإنسان، وما يتميز به من خصوصيات وطباع تمكنه من ممارسة الفعل على نحو إرادي قائم على الاختيار، وهو الأمر الذي يتميز به الإنسان عن الكائنات الحية الأخرى. وقد جاءت هذه الاجتهادات واضحة في المجالات المختلفة للفكر، الفلسفي منه والديني، والسحر، وحتى ميادين الفكر العلمي حديثا.
     ويكشف العرض التاريخي لتطور الفكر الاجتماعي في معالجته لموضوع الفعل ولموضوعات علم الاجتماع المختلفة عن ارتباطه وتعدد مدارسه بتنويعات الواقع المجتمعي في كل مرحلة تاريخية معطاة والتي تجسد في مضمونها عمليات التراكم المعرفية التي حققها الإنسان في المراحل السابقة عليها. فالفكر اليوناني، في مرحلته يقوم على إنجازات الفكر البشري السابقة في الحضارات الفارسية والهندية والصينية وغيرها، وليس صحيحا أن يكون هذا الفكر قد انتج ذاته بمعزل عن الآخرين. والفكر الإسلامي الذي بدا في مظاهره المتنوعة، وخاصة بعد نمو الترجمات اليونانية إلى اللغة العربية، كان بدوره نتاجا كيفيا لعمليات معقدة من التراكم المعرفي التي حققها الإنسان وطوَّرها عبر مراحل تاريخية واسعة، فبرزت مظاهر المعرفة في مجالاتها المختلفة، في الفلسفة، والاجتماع، والطب، والهندسة، والكيمياء، وغيرها الكثير. وفي كل مظهر من هذه المظاهر كان العلماء المسلمون يقيمون تصوراتهم وفلسفاتهم على أساس فهمهم واستيعابهم للثقافات الأخرى التي وفدت إليهم من الحضارات السابقة، الأمر الذي يؤكد غياب إمكانية القول بأن الفكر الإسلامي كان نتاجا لتطور ذاته، وبصورة معزولة ومستقلة عن الحضارات الأخرى.
    وتبرز هذه الملاحظة مرة أخرى في تحليل تيارات الفكر الاجتماعي الحديث، وحتى نهايات القرن التاسع عشر، والذي يعد بدوره نتاجا لعمليات التراكم المعرفية التي عرفها الإنسان منذ القديم، ولا يمكن النظر إليه بوصفه معزولا عن السياق التاريخي لنمو المعارف الإنسانية.
    ويلاحظ أن دراسة الفعل الإنساني وتفسيراته في إطار كل مرحلة تاريخية ترتبط بمنظومة فكرية مرجعية تكون بمثابة الإطار الذي يعتمده الفكر لتفسير الظواهر الاجتماعية والإنسانية بشكل عام خلال تلك المرحلة. غير أن الإطار المرجعي سرعان ما يتبدل مع تبدل ظروف الواقع ليتشكل إطار جديد يتوافق ومستجدات العصر، ففي المراحل التاريخية القديمة ارتبط التحليل الاجتماعي للفعل بالتصورات الفلسفية التي كانت سائدة بأشكال مختلفة، وتعد الفلسفة اليونانية من أكثر الفلسفات التي أسهمت في بناء الفكر الإنساني وتطويره. وهي تجسد عمليات التراكم المعرفية التي بناها الإنسان حتى ذلك الحين، لذلك رأينا الوقوف قليلا عند أعلام هذه الفلسفة لنتعرف على الخصائص العامة التي وصفت التحليل الاجتماعي آنذاك، وعلى العناصر الأساسية التي اُعتمدت في دراسة الفعل الإنساني، وفي دراسة الظواهر الاجتماعية بشكل عام.
     وعلى طرف مقابل يعد الفكر الاجتماعي الإسلامي محطة جديدة تجسدت فيها عمليات التراكم المعرفية التي بناها الإنسان حتى ذلك الحين، فأضاف المسلمون إلى تجارب الحضارات الأخرى خصوصيات تجربتهم، وأسهموا بطريقتهم في بناء الفكر الإنساني، وقد برز هذا الإسهام في مظاهره المبدعة، عندما حاول المسلمون احتواء الفلسفات الأخرى في تصوراتهم الفلسفية والاجتماعية والدينية ليكون للدين فهم متطور يستطيع التفاعل مع مستجدات العصر وتحولاته. فكانت محاولات التوفيق بين الشريعة والفلسفة التي أخذت بالتطور والنمو على يد كل من (ابن سينا) و(الفارابي)، و(ابن رشد) وغيرهم. ومع ذلك فقد ظهرت تيارات فكرية أخرى حاولت أن تطوِّر فهما للشريعة الإسلامية بحيث تكون مستقلة تماما عن الفلسفة على اعتبار أن الفكر الفلسفي يتطرق إلى مسائل تتجاوز حدود الشريعة، وتتعارض مع مقولاتها، ويعد (الغزالي) واحدا من ابرز ممثلي هذا الاتجاه. وإلى جانب ذلك ظهرت محاولات لم تعتمد الفكر الفلسفي كأساس لتصوراتها وإن كانت قد تحررت نسبيا من التفسيرات الدينية الصرفة التي كانت سائدة آنذاك. وقد برز هذا التوجه في أوضح صورة له على يد العلامة (ابن خلدون).
    أما المرحلة الأخيرة، والمتعلقة بالفكر الاجتماعي الحديث، فهي تجسد أيضا عمليات التراكم المعرفية التي طوَّرها الإنسان منذ القديم. وتعد أعمال كل من (أوغست كونت)، و(هربرت سبنسر)، و(كارل ماركس)، و(ماكس فيبر) و(أميل دركهايم) من أغنى المحاولات التي حاولت طرح تفسير متكامل للمسائل الاجتماعية بشكل خاص. وقد اعتمدت هذه الإسهامات جميعا إطارا معرفيا واحدا، وإن اختلفت التفصيلات والحيثيات بكل منها. فقد تأثر معظم المفكرين خلال هذه المرحلة بالمنظومة الفكرية العامة التي أخذت بالتشكل منذ بدايات العصر الحديث، وعلى إثر الاكتشافات الحديثة والتطورات العلمية والتقنية الجديدة، فكانت محاولاتهم تعكس نمط استجابتهم لتحولات العصر، ومن منظور الإطار الفكري المرجعي الموحد.
   وبالرغم من تطوير الباحثين والمفكرين الاجتماعيين لمنظومات فكرية مرجعية من أجل تفسير الظواهر والأحداث، واعتمادهم هذه المنظومات في أطروحاتهم فإن التراكم الكمي لأعمال الباحثين يسهم بدوره في تكوين منظومة عامة لا تنفصل في جوهرها عن المنظومات الفرعية نفسها. فالباحث يسهم بوعي منه، أو بدون وعي بتكوين المنظومة العامة، ويعتمد عليها. في الوقت الذي يحاول فيه تطويرها، وحل المشكلات المنطقية والمنهجية التي تتصف بها من وجهة نظره. ولما كان الباحثون يتمايزون في مستويات وعيهم وإدراكهم، وفي حجم تجاربهم الذاتية والمعرفية، فانهم يتمثلون المنظومة العامة على نحو مختلف، ويعتمدون عليها بدرجات مختلفة، الأمر الذي يفسر جوانب التشابه في أعمال المفكرين، وجوانب الاختلاف، ويبرز ذلك جليا في كل مرحلة تاريخية سبقت الإشارة إليها، سواء المرتبطة منها بمراحل ما قبل الإسلام، أو بمرحلة التفكير الاجتماعي الإسلامي، أو مرحلة التفكير الاجتماعي الحديث.
     كما تكمن أهمية دراسة الفعل الإنساني في إطار النظرية الاجتماعية المعاصرة في التوجهات النظرية والعملية الجديدة التي برزت مع بدايات القرن العشرين، حيث بدا واضحا الميل نحو التحرر من المقولات الفلسفية العامة والتصورات الشمولية، وظهر التركيز على موضوعات أقل شمولية، وبصورة منعزلة عن حركة الكلية الاجتماعية في السياق التاريخي. فتحليل الظواهر الاجتماعية، ومن ضمنها مظاهر الفعل الإنساني كان يقتضي في دراسات القرن التاسع عشر وضعها في إطارها التاريخي والاجتماعي، وتحديد موقعها في سلم التطور المجتمعي العام. إلا أن التحليل الاجتماعي أخذ مسارا آخر في إطار النظرية الاجتماعية المعاصرة، حيث برز التوجه نحو تحليل الشروط المجتمعية المحيطة بالظاهرة وربطها بالخصائص الذاتية التي تصف المجتمع المعني عند دراسة الظاهرة.
    وفي جانب آخر، يسهم تنوع مجالات الدراسة في علم الاجتماع، وتعدد ميادينه في إغناء النظرية الاجتماعية ورفدها بدراسات نظرية وتطبيقية جعلتها أكثر تنوعا مما كانت عليه في الماضي، فأخذت دراسات علم الاجتماع تمتد إلى الصناعة والزراعة والتعليم والإدارة وغيرها مما له صلة بالحياة الاجتماعية والفكرية القائمة. وقد أسهم هذا التعدد والتنوع في الآن ذاته في تعزيز صلة النظرية الاجتماعية بالواقع الاجتماعي، فأخذ الباحثون يهتمون أكثر فأكثر في توظيف الدراسات الاجتماعية لحل مشكلات الواقع، ومعالجة القضايا التي تجابه المجتمعات والمؤسسات والأفراد على اختلاف مستويات التحليل الاجتماعي.
    ففي سياق التطور الصناعي، كان على الدراسات الاجتماعية أن تتجاوب مع مشكلات هذا التطور، وما ينجم عنه من قضايا مهنية تخص العاملين في المؤسسات الصناعية على اختلاف مستوياتهم، فنمت دراسات الإنتاجية وعواملها، والدراسات المعنية بالسلوك المهني ضمن المؤسسات، وخاصة أنماط السلوك التي تساعد على تطوير مستوى الأداء وتحسين إنتاجية العمل. علما أن الاهتمام بهذه الموضوعات يعود إلى فترة ليست قصيرة، إذ نجد ملامحها واضحة في أعمال (روبرت أوين) و(لوترباخ) و(ماركس) و(ماكس فيبر) وغيرهم، وصولا إلى الدراسات المعاصرة. وقد امتد تأثير التطورات الاجتماعية في دراسات علم الاجتماع لتشمل دراسات التنظيم الاجتماعي التي تتجاوز حدود علم الاجتماع الصناعي  لتغطي جوانب مختلفة من نشاطات الإنسان في الحضارة المعاصرة. خاصة وأن الفعاليات الكبيرة في مختلف المجالات أصبحت قائمة على التنظيمات بعد أن كانت مرتبطة بنشاطات الأفراد في المراحل التقليدية.
    كما ظهر اهتمام واسع بدراسة سمات المجتمع الصناعي الحديث وخصائصه في المرحلة الراهنة، بعد أن أصبحت الصناعة محور الاقتصاد وأساسه، وهذا ما يميز مجتمعات القرن العشرين عن المجتمعات في المراحل السابقة، فجاءت دراسة الظواهر الاجتماعية مرتبطة بهذا التوجه، ومتأثرة به. ومن ذلك الدراسات المعنية بالسلطة السياسية، وتوزع القوى الاجتماعية والتطور العمراني، والممارسات الاجتماعية في المجتمعات الصناعية المعاصرة، والطبقات الاجتماعية.. وتعد دراسات كلمن(ر. بندكس) و(هـ. لوفيفر) و(س. رايت. ميلز) و(أ. تورين) من ابرز الدراسات المعاصرة في هذا المجال.
    والى جانب ذلك أخذت دراسات التحليل الوظيفي تزداد نموا، فاتسع ميدان تحليلها ليشمل مظاهر السلوك وأشكال الفعل ضمن المجتمعات الحديثة بشكل عام، وضمن التنظيم الاجتماعي بشكل خاص. ونجد في هذا السياق إسهامات كل من (ت. بارسونز) و(أ.جولدنر) و(ر. ميرتون) وغيرهم.
     وعلى الرغم من التنوع الكبير الذي يتصف به التراث النظري لعلم الاجتماع، وخاصة في معالجته لموضوع الفعل مازال يحمل في طياته إمكانية تطويره، فالنجاحات الكبيرة لا تحول دون تطوير النظريات المعنية به، ولا تعيق إمكانية تقديم إسهامات جديدة من شأنها أن تكشف النقاب عن مواطن ضعف، أو مواطن قوة في المعارف المتداولة. بل بالعكس من ذلك فإن غنى التراث النظري لعلم الاجتماع وتنوع مكوناته يساعد على تطوير الدراسات المرتبطة به، ودفع عملية تطورها قدما إلى الأمام.
     إن تحليل خصائص الفعل ومقوماته يقتضي التعرف على ما يتميز به الإنسان عن الكائنات الحية الأخرى من صفات وخصائص تمكنه من ممارسة الفعل. ولا يسهم التعرف على ما يشترك به الإنسان عن الكائنات الحية الأخرى من سمات وخصائص (وهو التوجه الذي كان سائدا طيلة القرن التاسع عشر) في تطوير معارفنا حول الذات الإنسانية إلا بمقدار ضئيل.
    وتعد الصفة النوعية للإنسان التي يتميز بها عن الكائنات الحية الأخرى، والمتمثلة باجتماع جملة من الصفات فيه، كالحياة والعلم والإرادة والقدرة .. بمثابة المدخل الرئيسي لتفسير تعدد أشكال الفعل التي يمارسها. وتنوع أبعاد البناء الاجتماعي التي يمكن تلمسها بين حين وآخر ضمن المجتمع الواحد، وبين المجتمعات المختلفة. فطبيعة البناء الاجتماعي، وخصائص التنظيم لا تنفصل في جوهرها عن خصائص الأفراد المكوِّنين للمجتمع .
     لقد خلق الله الإنسان على مثال صفاته في الحياة والعلم والإرادة والقدرة .. وجعله في أحسن تقويم بالمقارنة مع الكائنات الحية الأخرى. وقد يكون مضمون التفضيل قائما على هذا الاجتماع، وفي النتاج الكيفي لتفاعل هذه الصفات، خاصة إذا ما أدركنا طبيعة الروابط الوثيقة بين كل صفة من الصفات المذكورة وغيرها من الصفات المتبقية. وإذا منح الله عز وجل بعضا من هذه الصفات لعدد كبير من الكائنات، وبأشكال مختلفة فإن اجتماعها هو ما يميز الإنسان، وهو ما يجعله موضع التكريم.
   وهذه الصفات هي صفات إلهية في أساسها، فالله عز وجل هو الحي القيوم، والعالم، والمريد، والقادر، وهي ذاتية بالنسبة إليه، مطلقة لا حدود لها، ولكنها مكتسبة بالنسبة إلى الإنسان، ومقيدة بحدود الزمان والمكان. وبمعنى أكثر دقّة هي مقيدة بإرادة الله عز وجل، وبقدرته. وقد يكون ذلك هو المراد بقوله تعالى: (فإذا نفخت فيه من روحي..) "الحجر/ 29" . وفي ذلك تكمن المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان، لأنه يستخدم الصفات التي منحها الله له ليحِّسن الأداء ويؤدي الأمانة. فإن فعل ذلك فله أجره وثوابه، وان استخدم هذه الصفات في غير رضى الله كان ذلك داعيا لعقابه وسلبه ما أعطي من محاسن وخصائص.
    وإذا كان الفعل استجابة حقيقية لظروف الواقع المحيط فإن ذلك ينطوي على حقيقتين: الأولى هي أن الواقع الموضوعي يلعب دور المثير والمحّرض، إلا أنه لا يحدد نمط الاستجابة أو شكلها. بينما تلعب الخصائص الذاتية، وهذا مضمون الحقيقة الثانية، دور الموجّه، والمحدد لمسار الاستجابة وطريقها. وفي ذلك تكمن أهمية تربية الإنسان لذاته، والعمل على تهذيبها، وتنمية الخصائص النوعية التي ميزه الله باجتماعها فيه. وفي ذلك يقول الله عز وجل: (ونفس وما سوَّاها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكِّاها، وخاب من دسَّاها)"الشمس/ 6-7".
ويدفع التحليل المعمق لأشكال الفعل الإنساني إلى الوقوف عند ثلاث مسائل أساسية ترتبط بتعدد أشكال الفعل، منها ما يتعلق بتحليل مجال الفعل في لحظة تحققه، ومنظومة هذا المجال، ومنها ما يرتبط بتدرج الصفات بين الأفراد في إطار كل تجمع، الأمر الذي يظهر جليا وواضحا باتساع الفروقات بين الناس على الرغم من أنهم جميعا يقومون في طبيعتهم على خصائص متماثلة في إطلاقها، إلا أنها تتباين في محدوديتها، وفي تقييدها، الأمر الذي يستحيل معه وجود شخصين وقد تطابقت بينهما خصائصهما. وإذا كانت الظروف الموضوعية لا تتيح أي قدر من التوافق أو التطابق بحكم تنوع هذه الظروف، فإن عوامل التقارب والتضامن بين الأفراد لابد وأن تكون بفعل الذات، لا بفعل الموضوع. لأن الإرادة والقدرة .. وغير ذلك من الصفات مقرونة بذات الفاعلين، وليس بالظروف الموضوعية المحيطة بهم.
    والى جانب ذلك يسهم تحليل الفعل الاجتماعي، والتعرف على مقوماته في تطوير الدراسات الاجتماعية المعنية بمستقبل الظواهر الاجتماعية على اختلاف أنواعها، فدراسات علم الاجتماع المعاصر تتجه نحو تحليل الظواهر وبيان العوامل المختلفة التي تؤدي إلى انتشارها في وسط اجتماعي محدد. وتعتمد في ذلك منهجية علمية قوامها صياغة الافتراضات المفسرة للظاهرة، ومن ثم العمل على اختبار هذه الافتراضات الأساسية والتأكد من صحتها في حيز الواقع من خلال طرق منهجية عدة كالمسح الاجتماعي ودراسة الحالة وتحليل المضمون والمقارنة وغيرها ليصار بعد ذلك إلى بلورة اقتراحات عملية تفيد المخطط والمنفذ لتجنب الأخطار التي تهدد الأمن الاجتماعي من جراء انتشار الظاهرة المعنية أو عدم انتشارها.
    وتُستخدم  المؤشرات القياسية في إطار التوجيهات المشار إليها على نطاق واسع. فالتعرف على جوانب الظاهرة المدروسة وعواملها الأساسية يقتضي التعرف على مؤشراتها الرئيسية التي يمكن أن تغـطي جوانب عديدة. فإذا ما تمكن الباحث من تحديد مؤشرات الظاهرة على نحو مضبوط وصحيح كان ذلك أدعى إلى تطابق دراسته مع الواقع، وأدعى إلى سلامة الاقتراحات العملية التي يبلورها في نهاية بحثه. بينما يؤدي التحديد غير الواضح وغير الصحيح للمؤشرات إلى ابتعاد الدراسة عن الواقع، وغياب الاقتراحات العملية والعلمية المناسبة.
غير أن اهتمام الباحثين في علم  الاجتماع بمستقبل الظواهر الاجتماعية مازال ضعيفا، فالبحث ما إذا كانت ظاهرة ما قابلة للانتشار في وسط اجتماعي محدد أم غير قابلة لمثل هذا الانتشار مازال بعيدا عن اهتمام الباحثين وأعمالهم بحكم أن دراسة الظواهر القائمة فعلا في المحيط الاجتماعي مازالت عصية عن الفهم، ومازلنا نتعثر في صياغة التفسيرات العملية الصحيحة لها. وإذا كان هذا حال الظواهر القائمة في أرض الواقع فما هو حال الظواهر المستقبلية التي يمكن أن تنتشر في ذلك الوسط والتي تستدعي دراستها فهم ما هو قائم على الأقل؟.
    إن المشكلة في جوهرها ذات طابع منهجي بالدرجة الأولى، وتكمن، كما نلاحظ، في الفصل غير المقصود الذي تقيمه الدراسات الاجتماعية بين الظاهرة الاجتماعية من جهة والفعل الاجتماعي من جهة أخرى، لأن الظاهرة في نهاية التحليل سلوك متشابهة يمارسه الأفراد في أوقات متقاربة، وبمعنى أكثر دقة الظاهرة هي فعل اجتماعي يمارسه عدد من الأفراد على نحو متشابهة في وقت واحد تقريبا، فهي سلوك ينطوي على معرفة وإرادة. أما إذا غاب عن الفعل أحد العنصرين فيمكن إعادته بعد ذلك إلى وضعه كســلوك.
    فتحليل الفعل الاجتماعي ، وبيان مقوماته وشروطه لا يساعد على فهم الظاهرة القائمة فحسب بل يساعد على فهم الظواهر المستقبلية التي قد يتعرض لها وسط اجتماعي محدد واحتمالات انتشار الظواهر التي تقوم على ذلك الفعل، وذلك من خلال استخدام المؤشرات القياسية التي تكشف عن طبيعة الشروط الاقتصادية والاجتماعية السائدة وموقف الأفراد منها ومدى ارتباطهم بها، إضافة إلى معرفة الخصائص الذاتية للفاعلين التي تمكننا من تقدير احتمالات ممارستهم لفعل محدد في ظروف محددة.
    واستنادا إلى ذلك يتجه الكتاب في معالجته لموضوعاته في خمسة أبواب رئيسية، يبحث أولها في تاريخ الفكر الاجتماعي، والتطورات التي شهدها في معالجته لموضوع الفعل الاجتماعي وتنوع تياراته. ،وذلك في خمسة فصول أساسية تتناول العناصر الأساسية لاتجاهات الفكر الاجتماعي في معالجته لمظاهر الفعل لدى اليونان، والمسلمين، وتيارات الفلسفة الاجتماعية في العصور الحديثة، وتيارات التحليل الاجتماعي في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
   ويقدم الباب الثاني عرضا تحليليا لأبرز إسهامات المفكرين الاجتماعيين المعاصرين وكيفية معالجتهم لموضوعات علم الاجتماع بشكل عام، ولموضوعات الفعل الإنساني بشكل خاص. ويتألف من خمسة فصول تشرح أبرز أعمال المفكرين والباحثين في علم الاجتماع المعاصر، وأن تعرض أحيانا للأصول التاريخية المرتبطة بدراسة الموضوع المعني.
   ويتناول الباب الثالث تحليلا مفصلا لطبيعة العلاقة بين مقومات الفعل الإنساني، وأبعاد البناء الاجتماعي وخصائصه ويتضمن ثلاثة فصول، يحاول أولها أن يقدم تحليلا مفصلا لمجال الفعل الإنساني ولمنظومته العامة، فيتناول تحديد هذا المفهوم، ويقارنه مع المفاهيم التحليلية الأخرى القريبة منه. ويبحث في عناصر منظومة الفعل الإنساني التي تشمل العوامل الموضوعية، والعوامل الذاتية المرتبطة بشخصية الفاعل، وأخيرا نسبية مجال الفعل. أما الفصل الثاني فيرمي إلى بيان أثر الظروف الموضوعية في اتساع الفروقات الفردية بين الأشخاص، فيبحث في أثر ظروف التنشئة، والممارسات الواقعية، ومظاهر الضبط الاجتماعي وغيرها من العوامل المؤثرة على تكوين الشخصية لينتهي إلى تقرير أنه مع تعدد هذه العوامل وتنوعها لابد أن تتسع الفروقات بين الناس، ولابد من أن تتسع درجات التباين في الصفات النوعية. وأخيرا يتناول الفصل الثالث بالتحليل مفهوم تربية الإرادة الإنسانية وإمكانية التحكم بمجال الفعل الإنساني، وعلاقة ذلك بأبعاد البناء الاجتماعي.
   ويبحث الباب الرابع في موضوع تطبيقي هدفه الاستفادة من خصائص الفعل الإنساني للتعرف على احتمالات انتشار الظواهر الاجتماعية في المجتمع المعني، ويقوم على ثلاث فصول . يتناول أولها مسألة استخدام المؤشرات القياسية وتحليل العلاقة بين المتغيرات في دراسات علم الاجتماع. وفيه عدد من المحاور الفرعية التي تشمل معالجة لاستخدام المؤشرات وأسلوب تحليل المتغيرات عند (دركهايم)، ثم أسس تكوين المؤشرات عند (لازار سفيلد)، وأخيرا منهجية القياس الاجتماعي في دراسات علم النفس الاجتماعي. أما الفصل الثاني فيشتمل تحليلا لأطر الفعل الاجتماعي التي تتوزع في مستويات ثلاثة تتعلق بالشروط الموضوعية للفعل. وينتهي الباب بالفصل الثالث الذي يرمي إلى بيان الأسس المقترحة وبفهرسة المحتويات .لدراسة احتمالات انتشار الظواهر الاجتماعية في الوسط الاجتماعي، وذلك في ضوء تحليل أطر الفعل الاجتماعي وبنيته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق