خدمة الجماعات الإنسانية

   يأخذ العمل في مجال الخدمة الاجتماعية عامة، وفي مجال خدمة الجماعات خاصة أهميته المتزايدة في الوقت الراهن إثر التغيرات الواسعة والتطورات الهائلة التي يشهدها المجتمع البشري في المجالات المختلفة، فالحاجات الاجتماعية تنمو باستمرار ويصبح ماهو كمالي في مرحلة من مراحل التطور من الحاجات الضرورية في مرحلة أخرى، ولما كان كمال الشخصية وتوازنها رهن بدرجة النمو في تلبية الحاجات فمن الطبيعي أن يزداد إحساس الأفراد بحاجاتهم الأساسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
    وتسهم وسائل الاتصال الحديثة من قنوات البث التلفزيوني الفضائية، وشبكات الاتصال العالمية (الانترنت)، والهاتف المتنقل، بالإضافة إلى التطور الكبير في وسائل النقل والسفر في إغناء الثقافات المحلية بعنلصر ثقافية متجددة من البيئة والمحيط الاجتماعي والعلمي، فانتقال كل ما هو جديد من بلد إلى آخر أصبح أيسر وأكثر سهولة مما كان في الماضي، وقد ساعد ذلك في معرفة أبناء المجتمعات المحلية ثقافات جديدة، وجملة من العادات والقيم والأفكار التي لم يكن لهم إمكانية معرفتها في شروط ما قبل التطور التقني.
    وتجد هذه التحولات والتطورات الكبيرة أثرها واضحاً في شخصية الإنسان وفي اشكال معرفته ودرجات وعيه، وحتى في مظاهر انتمائه وارتباطه بأمته وحضارته وثقافته، حتى أصبح الناس يعيشون في دولهم ومشاعرهم وأحاسيسهم متجهة نحو ثقافات أخرى ربما وجدوا فيها ما يلبي الحاجات الوهمية لهم.
    وتزداد هذه الأهمية في وطننا العربي بالنظر إلى أن عوامل الضبط الاجتماعي التقليدية المتمثلة بالعوامل الدينية والقرابية أخذت بالتراجع والضعف منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، واصبح تأثيرها في شخصية الإنسان وانضباطه ضعيفا بالموازنة مع العوامل الأخرى المؤثرة فيه كالثقافات الوافدة إليه، والاتجاهات الفكرية والسياسية التي أخذت تنتشر بقوة، حتى أصبح أبناء المجتمع الواحد متعددين في اتجاهاتهم وميولهم ومشاعرهم.
    وفي ذلك تكمن أهمية العمل مع الجماعات في الوقت الراهن، خاصة وأن هذه الجماعات أخذت بالتنوع الكبير حتى في المجتمع المحلي الصغير، واصبحت كل واحدة منها تأخذ بأهداف وطموحات عديدة لتنمية طاقات أفرادها وتحسين الشروط الاقتصادية والاجتماعية لحياتهم، وبلغ الأمر أن الفرد الواحد أصبح ينتمي إلى جماعات عديدة، فقد يكون طالبا في الجامعة، وعضوا في الاتحاد الرياضي، وممثلاً لأبناء حيه في لجان الأحياء وغير ذلك من التنظيمات.
   وبرغم التنوع الملحوظ في الجماعات الاجتماعية والتعدد في التنظيمات المعنية بتوفير الحاجات الأساسية والكمالية لهذه الجماعات، إلا  أن قواسم مشتركة تجمع بينها، وتربط بين مكوناتها، فهي تنتمي إلى دولة واحدة وبلد واحد، ولا يمكن للفرد أن ينتمي في وقت واحد إلى امتين مختلفتين، ومن المتوقع أن يؤدي تنوع الجماعات الإنسانية في البلد الواحد إلى تضافر جهود أفرادها وتكاملها حتى يأتي البناء الوطني للدولة نتاجاً كليا لتضافر جهود أبنائه، فمصالح الجماعات متكاملة في غاياتها، مترابطة في وظائفها، ويصعب على أية جماعة إنسانية أن تحقق أهدافها وغاياتها بمعزل عن الوسط الاجتماعي الذي يحتضنها، وكلما أخذت الجماعة بالانعزال عن الوسط وأخذت بتنمية أهداف وطموحات لأبنائها دون الأخذ بعين الاعتبار الحاجات الاجتماعية العامة كلما ظهر التنافر بينها  وبين المجتمع الذي يحتضنها وتعيش فيه.
     ولما كانت عوامل التحديث، والتطورات التقانية الكبيرة، وعوامل الاتصال الأخرى تجعل الأفراد والجماعات على تواصل مستمر مع الثقافات الأخرى، والمجتمعات المختلفة فمن المتوقع أيضاً أن تنمو لديها الاتجاهات الفكرية والقيمية التي تجعل اهتماماتها مركزة على حاجاتها وقضايا الأساسية على اعتبار أن ما تحققه الجماعات المماثلة لها في المجتمعات الأخرى أكبر مما يعود إليها في مجتمعها، مما يجعل جهودها نحو نفسها أكبر من جهودها لتنمية بلدها وتطور مجتمعها، وقد تتحول الجهود المبذولة إلى جهود متنافرة بدلاً من كونها متوافقة.
وإلى جانب البناء الوطني والاجتماعي والأخلاقي لأفراد الجماعات تظهر الأهمية المتزايدة للبناء المهني والفني والتقاني لهم، وإذا كانت مشاعر الانتماء توحد الجهود المبعثرة والمشتتة، وتقوي منها وتجعلها كلاً واحداً، فإن البناء المهني والفني للأفراد يجعل أداءهم أكثر تطورا وعملهم أكثر انتظاما، فأداء الجماعة يختلف اختلافا كبيرا باختلاف نظمها وأشكال العلاقات الاجتماعية داخلها، وباختلاف مستويات التأهيل المهني والفني لأفرادها.
    ولهذا فإن عمل الأخصائي الاجتماعي في إطار الجماعات لا بد أن ينطوي على بعدين أساسيين، يتأكد من خلال البعد الأول ارتباط الجماعة بالمجتمع الأصلي، وبالقيم الاجتماعية والإنسانية، ويتحقق من خلال الثاني تكامل الشروط الداخلية لعمل الجماعة ووسائل تطويرها، وهو الأمر الذي يحاول الكتاب معالجته ومناقشته مع طلبة الخدمة الاجتماعية بغية تعزيز الدور الذي يمكن أن يؤديه الباحث الاجتماعي في خدمة بلده ومجتمعه أولاً، وفي خدمة الجماعات الإنسانية التي يعيش ضمنها، وقد أخذ على عاتقه القيام بخدمتها، والبحث في وسائل تطويرها.
     وتتوزع موضوعات الكتاب في ثمانية فصول، يوضح الفصل الأول التعريف بمفهوم خدمة الجماعة وعلاقتها بميادين الخدمة الاجتماعية الأخرى، ويشرح الفصل الثاني المعالم الرئيسية لفلسفة العمل مع الجماعات، والمبادئ الأساسية التي توجه هذا العمل، أما الفصل الثالث فيأخذ بتوضيح أهداف العمل مع الجماعات، والمتمثلة بتلبية الحاجات الأساسية لأعضاء الجماعة من جهة، وتنمية القيم الاجتماعية والوطنية فيهم من جهة ثانية. 

    ويتناول الفصل الرابع التعريف بمفهوم الجماعة وأنواعها وخصائصها، ومعايير التمييز بينها، كما يشرح الفصل الخامس المراكز الأساسية للعمل في الجماعات، والمتمثلة بالتخطيط والإشراف والإدارة والتنظيم، ويقدم الفصل السادس شرحا للمهام الأساسية للأخصائي الاجتماعي بغية تنظيم عمله ضمن الجماعة، كما يشرح الفصل السابع أسس إعداد التقارير العلمية والدراسات التي يمكن للأخصائي الاجتماعي القيام بها، خاصة إذا ما اراد تحليل الظواهر الاجتماعية التي تنتشر وسط الجماعة، وتقضي الضرورة تفسير هذه الظواهر وضبطها ومعالجتها، أما الفصل الثامن والأخير فيقدم عرضا مكثفا لدراسة اجتماعية تتصل بأوضاع العاملين، واثر ذلك في مستويات أدائهم في القطاع الصناعي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق